الخميس، 20 أغسطس 2015

قهوة مثلجة أسفل المطر

 قهوة مثلجة أسفل المطر 



إعتادت أقدامنا على أخذنا إلى  هذا المكان كل مرة تمطر بها..
أجلس أنا على المقعد الخشبي محتميةً من المطر
أفتح الكيس البلاستيكي و اتناول علبة من القهوة المثلّجة و أشربها حتى تنتهي..
واتناول الأخرى...واشربها كالبقية..

اتأمل في زخّات المطر ...حتى اسمع صوت أقدامه المسرعة تأتي إلى هذه الحديقة...يجلس هو على الكرسي المقابل لي
وينظر إليّ بسرعة ثم يتناول كتابه
المعتاد و يبدأ بالقراءة..

لا ينظر إحدانا إلى الآخر كثيراً..
فإذا تلاقت عينانا...لا تبتعد عن بعضها يميناً ولا شمالاً.

لهذا...يبقى كلانا في شؤونه الخاصة تحت مظلّة واحدة بينما قطرات المطر تتساقط و تضيف صوت جميل يشعرك بنقاوة الروح.

ومرة!
أثارني الفضول وسألته عن ذلك الكتاب الذي لا يفارق يداه ...

"ماذا تقرأ؟ "

فاندهش هو عند سماع صوتي ولأوّل مرة بعد صمتٍ طويل 
وقام بالإجابة بسرعة وتوتر مخفي نظراته عن وجهي..

هو "أنا؟ اااه...اقرأ كتاباً عن تاريخ لبنان"

فاندهشتُ أنا بدوري و أضفت 

"لبنان؟! في الواقع أنا من لبنان...بالتحديد بيروت"

فتغيرت ملامح وجهه وقال

"ااه..لذلك ملامح وجهك مختلفة "

مع إبتسامة قصيرة في آخر كلامه...
ومن ثمّ نظرت إليه و بقيت اتأمل به و ابتسامته تلك ما زالت عالقة في عقلي...فلاحظ هو نظراتي نحوه...فتلبّك و قام بتغيير صفحات الكتاب و بعثرته ومن ثمّ أغلقه...وقام بالتأمل بالقطرات المتساقطة من على المظلّة..



بعد دقائق..تكلّم هو محاولاً أن يبعد الصمت بيننا قليلاً..

هو "لماذا كلّ مرة تأتين فيها إلى هنا...لا تأكلين إلّا الشوكولا و شراب القهوة المثلّجة؟ "

فابتسمت أنا وأجبت 
"لا آكل غيرها"

فاندهش هو مرة أخرى وقال 

"ولكنها مضرّة"

لم أجبه بعدها ...بعد دقيقة كان المطر قد توقف..
فوقفتُ أنا على قدماي و حملتُ حقيبتي على كتفي وخرجتُ
وقلت

"أذاً...أراك في المرّة القادمة"

وخرجتُ من الحديقة وأنا اتخيّل نظراته المندهشة من عبارتي الأخيرة..

بعد ثلاث أيام..أمطرت السماء وكأنها تناديني لمقابلته...
فذهبتُ بعد العمل بسرعة إلى الحديقة لأحتمى أسفل مظلاتها وأنا احمل بيدي كتاب بوليسي جديد.

وبالطبع قد فهمتم قصدي من احضار ذلك الكتاب خصيصاً ^^

وصلتُ إلى الحديقة وجلست على المقاعد وأنا أراه قد وصل قبلي جالساً على نفس المقعد و بجانبه علبة وجبات طعام.

جلستُ أنا على مقعدي..
وفتحت علبة لوح شوكولا..
وقبل أن اتناول قطعة شوكولا...وقف هو وتقدّم إليّ 
بشجاعة وبيداه علبة وجبات طعام...

وجّه علبة الطعام بيديه الإثنتان نحوي وقال

"تفضلي علبة وجبات طعام..إنها مفيدة و لذيذة أكثر من الشوكولا و القهوة المثلّجة...لقد حذرتها بنفسي"

فرفعتُ رأسي إليه و ابتسمت قائلة

"شكرا جزيلاً"

فاتّسعت عيناه عند رؤية ابتسامتي ووقف ساكناً.

انا "اوه! تفضل هذا كتاب بوليسي لكاتب مشهور...اظن انه قد يعجبك"

ابتسمت عيناه و رُسِمت الفرحة على شفاهه قائلاً

"شكرا كثيراً سيدتي! "

انا: "عمري 27 سنة ..وأنت؟ "
هو: "عمري 28 سنة ..هههه أعمارنا متقاربة..امم سأجلس و ابدأ بقرائته

عاد هو إلى مقعد..بينما أنا أخذتُ علبة الطعام و فتحتها و اندهشتُ من ...شكلها و رائحتها الغريبة



تشجعتُ و تذوقت...في الواقع
لم يكن سيئاً...وكذلك لم يكن بالمذاق اللذيذ..
ولكنني ارتجلت و رسمتُ ابتسامة وأظهرتُ له انه فب غاية اللّذة

نظر لي هو واظنُّ انه يعلم بسوء مهاراته بالطبخ



بعدما توقف المطر..
اقترح هو أن نذهب سويّة إلى منازلنا..
قبلتُ اقتراحه و أخذتُ حقيبتي ورافقته...
وبينما نحن في الطريق نمشي و صوت قطرات المطر المتبقية تتساقط من على مظلّات الأسواق..
دار بيننا حديث مضحك..

هو "اعجبكِ الطعام؟ اعلم انني لستُ جيداً كثيراً ولكن "

انا "كلا...انه لذيذ....بعض الشيء"
هو "لا ارى من ملامح وجهكِ انه قد اعجبك -_- "
انا " كلا كلا! حقاً اعجبني!!!"
هو "إذاً في المرّة القادمة ستعدين انتي الطعام ...لنرىإن كان طبخي اسوأ من طبخك أم العكس"
انا "لا انصحك بتجربة طبخي...هههه فالتجرب علبة من مشروب القهوة المثلجة"
هو "حسناً"

ناولته واحدة وتلامست يدانا ببعضها دون ان نشعر!
اندهشنا و أخذ هو العلبة بسرعة و فتحها و شربها دفعة واحدة!
نظرتُ إليه بغرابة بعدما شربها..
وما هي إلّا لحظات حتى شعر هو بالغثيان ووضع يده على فمه وركض إلى أقرب شجرة في الطريق وتقيأ!

هو "ااااخ...حقاً ماهذا الذي تشربيه طوال الوقت؟! 
طعمه مرّ ! "

فضحكتُ انا ضحكة لا إرادية رغم صلابة الموقف وقلت

" أول مرة أرى فيها شخصاً يشرب أسرع مني ههههه ..هيا لنذهب إلى منزلي...في هذا الطقس البارد قد تسوء حالتك "

وذهبنا سويّاً مع انه قد حاول الرفض ولكنني لم اقبل رفضه و ادخلته منزلي..
وعندما دخلتُ المنزل..ركضت أختاي الصغيرتان نحوي وهما مندهشتان منه.

اختي الصغرى: اختي!! من هذا الشاب الوسيم؟

انا "انه رجل مريض لذلك لا يجب ان نزعجه ...كيف هي حال امي؟ هل وقعت من كرسيّها المتحرك؟"

اختي: لا تخافي لقد اعطيتها دوائها 

انا " جيّد..هيا خذو هذا اللوح من الشوكولا لانكم أحسنتم التصرف في غيابي و اعتنيتم بوالدتنا"

كانت الفرحة على وجوه أخواتي لا توصف عندما اعطيتهم لوح من الشوكولا الكبير...وقد لاحظتُ نظراته هو المندهشة التي تميل إلى الحزن..
ادخلته غرفتي وجلس هو على سريري...ناولته معطف والدي القديم الدافئ.

انا "والدي توفي قبل ثلاث سنوات...و امي أصابتها جلطة من شدّة انهاشها و حزنها على وفاة والدي و أصبحت مُقعدة...لذلك أنا اعتني بأختاي و أمي و اعمل...ولا تقلق أبداً...فأنا سعيدة لتواجدهم معي حتى مع سوء الأحوال"

نظر لي وهو متمسك بأطراف الغطاء نظرة حزن رغم قولي له بأنني سعيدة ..
ومن ثم اتعرف هو ببعض عن حياته..

هو "أمي عجوز هرمة أول همّها أن تجد لي زوجة وآخر همّها هو أن تعتني بنفسها...ليس لديّ إخوة لأن أبي طلّق أمي بعد ولادتي بشهرين..وأمي لم تتزوج بعد ذلك "

فضحكت وقلت 

"مدلل"

هو "كلا لستُ كذلك! ولكنني فقط أحببتُ أن أرّفه عنكِ"

حقاً...لقد ارتحت بالكلام معه فهو ليس قاسياْ بل متفهماً...وكان يجعلني اضحك حتى وهو في اسوأ حالاته
في يومها..حدثت احداث كثيرة عرفتنا عن بعضنا البعض
وفي يوم واحد فقط!

بعد ذلك اليوم...لم تمطر
مرّ يوم..يومان...خمسة ايام
اسبوع..اسبوعان..

حتى جاءت عاصفة ممطرة لتأخذ حقها في الأيام الخوالي
التي لم تدمع السماء فيها..

دمرّت تلك العاصفة الكثير من المباني الهرمة
و ماتت الكثير من الأشجار المحتضنة ببعضها البعض
ولم يخرج أحد من بيته و أمانه
وجميع المحلات أُغلقت

بعد تلك العاصفة
قامت الحكومة بمساعدات كثيرة لتحسين الوضع
و أيضاً تعاون السكّان جميعاً لتصليح الأماكن المدّمرة
وبعدها سكن الطقس و عادت لوضعها الطبيعي
الإمطار الخفيف لتوديع الخريف
وتساقط الثلج

لم اذهب من حينها لتلك الحديقة
ولم ينتابني الفضول أبداً للذهاب و رؤية المطر
وأيضاً...لم أراه من حينها
بعدما مرّ شهرين
وأمطرت أربع مرات

(بعد مرور ثلاث سنوات)

الطقس مشمس تقريباً
بعض الغيوم تغطي السماء الصافية
الناس جميعها منشغلة في اعمالها
الأب يذهب إلى وظيفته لتحصيل المال 
والأم ترعى ابنائها و تقلّهم إلى المدارس
والمراهقين يركضون بسرعة قبل أن تغلق أبواب دخول المدرسة

تمضي الحياة بطبيعية
كل شخص يهتم بشئونه الخاصّة
ولا يلاحظ تغيرات الطقس أو أيّاً من ذلك

يمر رجل طويل في الثلاثينيات من عمره
بتسريحة شعر مرفوعة ببعض كريم الشعر
يرتدي معطفاً و بيده مظلّته المعتادة
وكأنه الوحيد المميز بين الناس
,النقطة الملّونة من بين جميع الناس
الذي يتأمل في السماء وكأنها لوحة مثيرة للإهتمام
تأخذه أقدامه نحو منزل فتاة اعتاد على رؤيتها سابقاً

لا يجد المنزل..
يجد فقط أرضاً خالية تملأها الحصى
وبعض الآلات تحفر في التراب لبناء منزل جديد
يندهش الرجل و يذهب ليسأل اقرب رجل يراه

الشاب "عذراً سيدي..أين المنزل الذي كان هنا...كانت عجوز مقعدة مع ابنتها الكبرى و ابنتان صغيرات به..اين اختفى؟ "

تنّهد الرجل و نظر للأرض قائلاً
"لقد تدمر هذا المنزل بالعاصفة لشدّة ضعف بناءه
وللأسف...توفيت العائلة التي به قبل ثلاث سنوات و بضع أشهر تقريباً "

وقعت المظلة من يد الرجل,
تتسّع عيناه السوداء,,
ويققف ساكناً للحظات...حتى يتناول مظلته ويركض بسرعة
كبيرة نحو الحديقة القديمة تلك...
بينما هو في وجهته راكضاً...أمطرت السماء
واختلطت دموع الرجل مع دموع السماء على خدّيه
حتى وصل أخيراً إلى تلك الحديقة ليراها خالية تماماً

لا أحد بها
,الحديقة باتت شبه ميتة
ورائحة المطر تفوح برائحة تلك الفتاة.
يدخل الشاب إلى وسط الحديقة عند تواجد الكراسي 
والمظلات..

يقف في وسط المكان
وينظر إلى تلك المقاعد التي اعتاد على 
رؤيتها جالسة على إحدها..
يقف في سكون تام
ويختفي صوت المطر في أذنيه..
ولم يستطع سماع صوت المطر...
فقط يسمع صوت العصافير,
صوت الطبيعة
حتى يقطع تلك الأصوات..سقوط علبة
مشروب معدنية على الأرض...
يلتفت الشاب وراءه بسرعة !

يعود صوت المطر و ينخفض صوت الطبيعة
حين يراها في ملابس سوداء
وبشعر مصبوغ بالأشقر
حاملةً مظلّة قديمة و بيدها علبة قهوة معدنية



كاد أن لا يعرفها لكن
قلبه قاده إليها دون النظر حتّى!

بقي ساكناً..واقفاً في مكانه صامتاً!
حتى تكلمت هي..

"أظن انك سمعت بالخبر الفظيع..
لا بأس..رغم انني استغرقتُ وقتاً لتخطي ذلك إلّا أنني
بخير الآن..لستُ مداعةً للشفقة!"

حينها...ترك هو مظلّته و تحرك خطوات
ومن ثم ركض إليها بسرعة و حضنها حضناً لم
تشعر هي بقطرات المطر من بعده..
تشبّكت ذراعيه على ظهرها و رأسه على كتفها
ودموع بللت معطفها الأسود..

قال فقط هامساً في اذنها
"لقد انتظرتكِ كثيراً!"

النهاية








ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق