السبت، 18 يوليو 2015

فقط أبيض وأسود

قصة قصيرة بعنوان: فقط أبيض وأسود



أجلس على كرسيّ مكتبي,
أُخرِج علبة السجائر وأتناول واحد وأُشعلها..
آخذ نفس عميق من السيجارة..
ومن ثمّ أُطلقه لينتشر في الهواء ليعبث بذكرياتي ويُشكلّ لي ظهرها وهي تغادر...فأقوم بمحو الذكريات التي شكلّها الدخان بيدي..

أحكّ ذقني ولحيتي...و أُرجع رأسي للوراء ليتكئ بحافة الكرسي..و آخذُ نفساً آخر وأطلقه...
وما ان يخرج الدخان..حتّى تنطلق الذكريات مسرعة عبر هذا الدخان ..

وكالعادة...تلك الذكريات تتشكلّ على شكل جسر طويل

...تتمشى هي به...خطوة وراء خطوة...دمعة وراء دمعة..نسيم الهواء يلاعب بخسيلات شعرها..وما أن ينتهي وجود الدخان...

حتى ينتهي مشيها هي بالإلتفات إليّ مع نظرة حادّة ومؤلمة ...يتلاشى الجسر ..وتختفي الدموع ..وتختبئ هي جزيئات الدخان المتناثرة في الهواء المتلوث.

جميعها ذكريات ..جميعها آلام ..جميعها بواقي الحب ....جميعها ,ذكريات سرقها الزمن وقام برميها في وجهنا..لكيّ تتشبث في ذاكرتنا وعقولنا ..ونندم ونتمنى لو أن تعود تلك الذكريات ونصحهها...
تثير عواطفنا..تُشعل حقدنا ..تلعب في نفوسنا ..و تبعث لنا إحساس الندم الذي يثير غضبنا و حزننا و بكاؤنا...حتى تصبح كلمة "لوّ.." على ألسنتنا..


أحتسي من فنجان القهوة خاصتي..
أعواد جلستي بطريقة صحيحة على كرسي مكتبي..
انظر للمكتب الكئيب..يبدو لي أسود و شاحب و مليء بالذكريات القاسية..
انظر للكرسيّان المتواجدان أمام المكتب للضيوف..

فأرى نسيم الهواء الخارج من النافذة يتشكلّ بجسدها وأرى خيالها الوهمي يجلس على أحد الكرسيّان..يضحك أمامي و يبتسم إبتسامة فرحة وملائكية 

تُنمي في نفسي الرغبة في العيش 
تمدُّ أصبعها لتلعب بحافة فنجان القهوة خاصتي..
ومن ثمّ تعاود النظر إليّ بضحكة منعشة و فاتنة


كلما يظهر خيالها وهي تضحك و تبتسم وتنظر إليّ بحنان..
يؤنّبني ضميري بشدّة ..

حسناً..لن أُطيل عليكم..كل ما في الأمر..
أن الذنب ذنبي ...وكالعادة ...
أُعاتب نفسي على كل تغيراتي و حماقتي و عصبيتي التي أطلقتُها عليها هي...

لم يكن لها ذنب...في الواقع كانت تحبنّي وتأتي إليّ في أوقات عملي..وتقوم بإضحاكي و مواساتي بعد كلّ مرّة يُعاتبني المدير أمام الجميع...

تأتي إليّ وتلتف حولي وأنا جالس على كرسيّ مكتبي ...وتقوم بوضع أصبعيها على خدايّ ...وتقوم أطراف أصابعها بالعبث في شعيرات لحيتي...

فأقوم بطرد أصابعها من وجهي و إخراج غضبي عليها هي...و أصرخ و أُعاتب و أسخر من كل شيء فيها...ولا يبقى بين الشِجار و انتهاء علاقتنا سوى شعرة رفيعة صغيرة..

فتخرج من مكتبي ونظرات الغضب و الحزن متخالطتان على وجهها...و تقوم بإغلاق الباب بقوة و صوت طرطقات كعبها تسمعها أُذناي وكأنهما تقوم بستمي و معاتبتي و الصراخ في وجهي...

وهكذا..كنتُ أضيّع أغلى و أثمن لحظات حياتي معها..
في تنفيذ غضبي كلّه عليها..
كما تفعل الرياح العاصفة القاسية بالنفخ و الهبوب على البيوت الضعيفة التي لا ذنب لها أو حتى شيئاً لتتشبث به..

كانت حالاتي تتغير إلى الأسوأ...وكانت هي تعود وتقوم بمواساتي و لكنني لا أردّ عليها ...و اعتادت هي عليّ أنا وعلى تغيراتي رُغماً عنها ...لكيّ لا تحدث مشاكل أكثر...

و اعتادت نفسي على حالتي العصبية و المزاجية و المتقلبة...حتى تغيرت شخصيتي من الحنونة و المزوحة و الرجولية الوفية..

إلى شخصيةٍ من المستحيل أن يعتاد أحد عليها سوى الأشخاص التي تملك شخصية و مواصفات طبقاً لها...المغرورة و العصبية و المتفاخرة و الباردة وكنتُ أصبح اسوأ فأسوأ..

حتى ذلك اليوم الذي..

كان الطقس غائماً وعلى وشك الإمطار..
كنتُ أقوم ببعض التمرينات في النادي الرياضي
وفجأة يرن هاتفي النقال..
فأمسح عرقي بالمنشفة و أسحب بأصبعي
على شاشة الهاتف لأرى أنها تقوم هي بالإتصال بي!
 إنزعجت و تأفأفتُ ولم أرد..

وعندما جئتُ لأغلقه..حتى أرى رسالة من
مدير الشركة قائلاً:

مبارك, لقد تمّت ترقيتك
لمنصب أعلى من الذي أنت عله و تضاعف راتبك
,أحسنت العمل في مشروعك السابق الذي
أذهل الضيوف.

وقفتُ مندهشاً و تركتُ أثقال الحديد
و انتشرت ملامح السعادة على وجهي
وشعرتُ بقلبي يطير ويغني من الفرح!

وتوقفتُ عن التدريب وذهبتُ لأخذ حمامّاً بارداً ومنعشاً
...وما أن انتهيت حتى غادرتُ النادي الرياضي
و جسرٌ من الطموح و الأحلام يمتد أمامي وينير
لي الطريق!

حتى اندهشتُ و أنا امشي برؤيتها هي تمشي أمامي في ممر النادي الرياضي 
عند باب الخروج..

فأحببتُ أن افاجئها بخبر كانت مخيلتي تصنع لي
المشاهد التي تعلو فيها إبتسامتها على وجهها عند
فرحتها لي وبترقيتي,
ولكن.!
توقفت تلك المشاهد و انكسر الجسر
و اختفت المخيّلة بما تحمل من فرح وإبتسامات...
حين رأيتها

تمشي ببطئ وتعب
وكأن خطواتها البطيئة تنادي على شخصٍ
ليحملها ويحميها من الوقوع !

فتقدمتُ إليها بضع خطوات, وناديتها 
بمصطلح مضحك لا أعرف من أين أخرجه لساني
وكيف جمع حروفه!

وبدون إرادة منّي..رفعت يدي نفسها
وألقت بنفسها على كتفها الصغير
وسحبتها إليّ بدافع الحنان و اهتمام..

وعندما إلّتفتت هي إليّ ,كانت عيناها
 الخضراوتان الواسعتان
ممتلئة بالدموع المالحة الحارقة!
وجهها الأبيض..كان يملأه الحزن ..

فترددتُ وقلتُ حينها: "ما بالُ هذا الوجه الملائكيُ الشاحب؟"

كانت كلمتين قالتهما لي ببرود كامل وكأن العكس يوضح معنى كلاهما..

-" فقط لا تهتم"

فضحكتُ أنا بدوري وأضفت على الحديث:

هل تعنين بكلامكِ هذا "أرجوك فالتهتم فأنا لستُ بحالة جيدة" ؟؟

فضحكت هي حينها ضحكة أظهرت الدموع
و انغمرت من عيناها كالشلّال إلى أن اصبح اللون الأحمر
الخافت يملأ عيناها من البكاء!!

فقالت لي...

- " أنت لا تعلم هذا الشعور..
عندما تشعر أن هنالك كلمات و مشاعر و مشاكل بداخلك
وتريد أن تطلق صراحها لشخص يرتاح قلبك عندما
تفصح له بمشاعرك ..

قد اعتاد لسانك على التفوّه بكل ما يزعجك له..

وقلبك الذي اعتاد على أن يفتح نفسه و يطرد تلك المشاكل و الهموم حين يفصح اللسان بها له..

وأطراف جسدك التي اعتادت على الإستسلام له
حين يتعب القلب من إخراج تلك الهموم...

ولكن! ..
فجأة..ينعقد لسانك ..ويمنع نفسه من التفوّه بأي شيء
,فيتعب القلب من كثرة تلك الهموم والمشاكل
التي يحبسها بداخله بقيود وحبال اللسان..

وأطراف جسدك التي تنهمر على الأرض القاسية..
فتبلل دموعك هذه الأرض بحُرقة تعبيراً عن 
الأشواك و الحبال الحديدية التيتخنق قلبك..

وعد التفوّه بأي شيء..يكون بسبب تغير
ذلك الشخص الذي ترتاح عند وجودك معه..
ذلك الشخص...الذي يكون بديل المظلة عند المطر..

والكتف الحنون عند البكاء..
وهو الشخص الذي تستبدله بدفتر مذكراتك وتفتح قلبك له 
و بكل وثوق...

ولقد تغيّر ..وهكذا تنعدم المشاعر و النفسية !! 

لقد تغيرتَ كثيراً..بِتُّ لا أعرفك! " -

تلك الكلمات و الجُمل التي أخرجتيها بتعب
و فككتي قيود قلبكِ وبكيتي حتى الموت وأنتي تنطقي بها و بصعوبة ولكن بدفعة واحدة !!
مازالت مغروزةً في قلبي كأشواك
قلبك الحنون الماضي..

وهنا..أنا نادم!
نادمٌ على كلّ شيء وأقول..

"الحياةُ فقط أبيض وأسود..
كانت بيضاء معكِ إلى أن إسودّت بغبائي و استهتاري
لكِ ...وأخذكِ الزمن مني وسودّها.."

النهاية




هناك تعليق واحد:

  1. مالها كدة حزينه
    بس تصدقي حلوة
    فايتنغ

    ردحذف